الفصل الخامس عشر
الإيمان بالقيامة
مقدّمة
قال يوحنا عن التلميذ الذي كان يسوع يحبّه: "رأى وآمن". جاء فعل آمن بعد فعل رأى، فصوّر موقف الانسان الذي رأى "آية" فاكتشف شخص يسوع فآمن. فالآية هنا ليست فقط دحرجة الحجر عن القبر، بل غياب جسد يسوع مع وجود اللفائف مطويّة. إن هذه العلامة، وإن كانت سلبيّة (لم يروا المسيح) تبدو وكأنها لغز. ففعل آمن هنا، يوجّهنا نحو فكرة القبول الهادىء والعبور إلى سرّ لا نفهمه، مع ثقة تامّة بمحبّة الله التي تفعل: السّر يحيط بالمشهد، وينحلّ اللغز من دون تبادل كلمات بشريّة، بدون حضور القائم من الموت حضوراً منظوراً. حلّ النور فتمّ التحوّل، في الصمت وفي أعماق القلب. فالعبارة "رأى وآمن" نقرأها في معناها الكامل.
لم يقتنع يوحنا فقط بحقيقة كلمات مريم المجدليّة. مريم أعلنت: "أخذوا الربّ"، ولم تتحدّث عن المنديل واللفائف. لقد أمن التلميذ، وسيفسّر النصّ لانجيلي الحدث فيقول: "لم يكونا بعد قد فهما الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات" (يو 20: 9). لقد فهم التلميذ وآمن أن يسوع حيّ.
1- جواب الحُبّ على الحُبّ
هذا الإيمان لدى رؤية القبر الفارغ واللفائف المطويّة هر قفزة جريئة. فواقع القبر الفارغ يحمل تأويلات عديدة. نحن أمام غياب، أمام سؤال مطروح، ولا بدّ من ظهورات المسيح لتثبت بصورة حاسمة المدلول الحقيقيّ لهذا الواقع. ومع ذلك، ينسب إليه يوحنا مكانة هامّة في بنية الإيمان الفصحي. فالقبر الفارغ هو في نظره قيامة المسيح المحفورة في تجويف العالم المحسوس. عرف التلميذ بسرعة، أن الربّ حيّ، وسيعرف من بعد الصيد العجيب وبسرعة، أن الواقف على شاطىء البحيرة هو الربّ القائم من الموت. قال لبطرس: "هو الربّ" (21: 7).
لا شكّ في أن الهدف الدفاعيّ حاضر في النصّ: وجود التلميذين داخل القبر صباح الفصح، وملاحظتهما للواقع. كل هذا يدلّ على مرحلة من التقليد، أرادت فيها "الجماعة" أن تردّ على الذين اتهموا المسيحيّين بإخفاء جسد يسوع بحيلة من الحيل، وأن تثبت شهادة النسوة بشهادة بطرس ويوحنا. ومع ذلك تبقى الفكرة المسيطرة في هذا النصّ: إيمان التلميذ الحبيب. في حيرة صباح الفصح، أعطى الجواب للسؤال المطروح: "أين هو الربّ"؟ ولماذا وجد الحلّ؟ لأنه كان يحبّ. فالإيمان الفصحي هو موهبة حبّ الربّ، وجواب الحبّ على الحبّ.، هو بُعد نظر الحبّ.
2- وناداها باسمها
وتتألّف المرحلة الثانية في تصوير الإيسان الفصحي (يو 20: 11- 18) من زمنين. يبدو هذا الإيمان عبوراً من الغياب إلى الحضور، من الحزن لدى ضياع يسوع، إلى البهجة بوجوده من جديد. إنّ عالم القيامة الالهيّ لن يكشف بعد اليوم عن نفسه بطريقة غير مباشرة، عبر دحرجة الحجر واللفائف المطويّة ووجود المنديل وغياب المصلوب. فيسوع جاء بنفسه إلى المرأة الحزينة الباكية التي تبحث عنه بين الموتى.
يرتبط الظهور لمريم ارتباطاً وثيقاً، ببحثها ودموعها، ويدخل يسوع إلى قلبها عبر هذا الحزن. سألها: "لماذا تبكين"؟ ثم شاركها في بحثها: "من تطلبين"؟ قبل أن يعرّفها بنفسه، أجبرها على أن تعلن سبب بكائها وموضوع طلبها. كان يسوع قد قال للنسوة: "لمَ تطلُبْنَ بين الأموات مَنْ هو حيّ" (لو 24: 5)؟ أما سؤاله هنا فهو مرحلة ضَروريّة في مسيرة الإيمان. اقتربت مريم من يسوع القائم من الموت كما اقترب تلميذا عمّاوس (لو 24: 28- 35).
نجد أمثلة مشابهة عن هذا البحث في الانجيل الرابع. حين تبع تلميذا المعمدان يسوع، التفت وسألهما كما سأل مريم: "ماذا تطلبان"؟ والموازاة مع مشهد القبر تمتدّ في السؤال الذي طرحه التلميذان: "رابي، أين تقيم" (يو 1: 38)؟ مثلهما فعلت مريم مع الذي ظنّته "البستانيّ" والتي ستناديه بعد لحظة "رابوني". فسألت: "أين وضعته"؟
ولكن الحدث الأهمّ هو ساعة تتعرّف مريم إلى يسوع. هذا الزمن هو من عمل يسوع كما في خبر عمّاوس. ما اكتفى يسوع بأن يقوم بالخطوات الأولى، بل فعل كل شيء: انطلق ممن الحياة المشتركة. فالإيمان بالقائم من الموت والمشاركة معه يشكّلان شيئاً واحداً. استعادت مريم، استعاد التلميذان ذكرى حياة مشتركة، فكشف الربّ القائم عن نفسه. في عمّاوس، جاء الطعام المشترك، جاء كسر الخبز ففتح أعين التلميذين. وعرفت مريم المجدليّة يسوع حين ناداها باسمها. ما لم تستطع أن تفعله التسمية العامّة "يا امرأة"، قد حقّقه حالاً الاسم الشخصيّ "مريم" الذي يدلّ على علاقة شخصيّة وحميمة. اكتشفت مريم نداء تعرفه. فاسمها في فم هذا الرجل يخلق اتصالاً جديداً مع الربّ الحيّ. فانفتحت عيناها. ووُلد إيمانها في صرخة وهتاف: "رابوني"! الإيمان الفصحيّ هو حوار مع يسوع الحيّ عبر الموت.
3- شرطَ أن يتحرّر إيمانها ويتجدّد
ولكن الزمن الثاني يبقى ضرورياً: لا بدّ من عبور عتبة جديدة. فالإيمان الذي ربط مريم بالمسيح ما زال إيمان "الأرض" الذي لم يرضَ عنه يسوع (يو 2: 23- 25؛ 3: 1- 10؛ 8: 30- 32: فعلى إيمان مريم أن يتجدّد تجدّداً جذرياً، أن يرتفع إلى العلاء، إلى مستوى التجليّ. فهذا الإيمان المتجّه إلى يسوع الحاضر ما زال مرتبطاً بخبرة الماضي. لقد تصوّرت مريم قيامة معلّمها كعودة بسيطة إلى ما كان عليه سابقاً. لقد تخيّلت أن يسوع يستعيد مكانه بين الأحياء في هذا العالم على مثال لعازر (يو 12: 2). إنها تشبه عروس نشيد الأناشيد التي تعلن أنها أمسكت عريسها ولن تفلته. هذا ما يفترضه كلام يسوع: "لا تلمسيني" أو "توقّفي عن لمسي" (نش 3: 4؛ يو 20: 17). ارتمت مريم عند قدميّ يسوع وأمسكتهما وأخذت تقبّلهما. هذا ما فعلت النسوة أيضاً. كما يقول مت 28: 9. غير أن يسوع لا يخرج من القبر ليعود إلى وجوده الأرضي السابق. إنه يصعد إلى أبيه. إنه ينتقل إلى حالة جديدة. لقد صار الآن من العلاء (يو 8: 32) بكلّ كيانه. وما فعلته مريم لا يوافق هذه الحالة الجديدة. إذن عليها أن تقبل بأن يفلت منها يسوع ساعة عرفَتْهُ ووجدَتْهُ. هذا ما حدث لتلميذَي عمّاوس أيضاً.
4- وتصبح المبشّرة بالقيامة
لماذا وجب على مريم أن تتخلّى عن يسوع؟ ليست الساعة ساعة العواطف. فعلى مريم أن تحمل بلاغ يسوع إلى "إخوته" (يو 20: 17؛ مت 28: 10). ولكنّنا نجد أيضاً تعليماً لاهوتياً: على مريم أن لا تلمس يسوع، لأنه لم يصعد بعد إلى أبيه. وما ستقوله لإخوة يسوع هو أنه صاعد إلى أبيه وأبيهم، إلى إلهه وإلههم.
نحن نفسّر كلمة يسوع هذه على ضوء التعاليم السابقة في إنجيل يوحنا وبالأخصّ في خُطب الوداع. كان يسوع قد أعلن لتلاميذه أن ذهابه وعودته إلى الآب يشكّلان الشرط الضروريّ لحضوره الحقيقيّ ووحيه الكامل: "من أحبنّي أحببتُهُ وأظهرتُ له نفسي... أبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نصنعُ منزلاً" (يو 14: 21- 23). فعلى مريم أن لا تحتفظ بيسوع ساعة هذا الصعود الفصحي الذي يجتذبه نحو الآب من أجلنا. فعودة يسوع إلى ينبوع الحبّ الأبويّ الذي منه نزل إلى البشر (يو 3: 13؛ 6: 38- 42)، تهدف إلى تكملة العمل الذي أوكل به، وهو "أن يجعل الذين يؤمنون به أن يصيروا أبناء الله". يصعد يسوع إلى أبيه لكي تعود نعمةُ الابن الوحيد من كائنه الممجّد وتجري عليهم كالنهر. فإن تخلّى عن أخصّائه، وإن بدا أنه يتفلّت منهم ساعة يظهر لهم، فلكي يربطهم بذاته ربطاً أوثق كإخوة له، ولكي يبقى فيهم: "لتكون فيهم المحبّة التي أحببتني، وأكون أنا فيهم" (يو 17: 26). كان لمريم خبرة أولى لحضور يسوع القائم من الموت في لقاء البستان. فيجب أن لا تتوقّف عند هذا الجدّ.
5- انطلاقة نحو العلاء
وهكذا نكتشف سمة جوهريّة في الإيمان الفصحي: إنه اتّحاد شخصيّ بالمسيح القائم من الموت بواسطة كلمته الحيّة. وهو أيضاً خضوع لهذه الكلمة التي تجتذب التلميذ إلى ما وراء العالم. هذا الإيمان لا يستطيع أن يتأخّر لدى ما هو بعدُ من أسفل. هو مدعوٌّ بموضوعه نفسه (يسوع الحيّ كما عرفوه ووجدوه) إلى أن يتحوّل انطلاقةً نحو العلاء يجتذب التلميذ معه. إنّ هذا المسيح الحاضر يبدو وكأنه يهرب إلى اللامحدود. ولكنّ هذا الهرب نفسه يعطينا إيّاه. إذا طمحنا إلى الإمساك والاحتفاظ به، فهو يفلت منّا ولا يعود. يجب أن نخسره لكي نحصل عليه. هذا يعني أن الإيمان فصحيّ جوهره، أي عبور من هذا العالم إلى الآب على خطى المسيح الذي مات وقام: عبور من يسوع الذي وجدناه إلى يسوع الممجّد، عبور من يسوع الماضي إلى يسوع الحاضر اليوم، عبور من يسوع الأرض إلى يسوع نفسه الذي هو لدى الآب.
7- من أجل حضور آخر
ولا يتحقق الإيمان إلاّ حين يتجاوز نفسه، حين يتنقّى (يو 15: 3) من كل ما لا يوجّهنا إلى الآب. وقد استعاد الكردينال نيومان كلمات يسوع ففسّرها على الشكل التالي: "أن أصعد من هذه الأرض بجسدي ونفسي إلى الآب، هذا يعني أن أنزل بالروح من الآب اليكم. حينئئذٍ أكون حاضراً لديكم، وإن كنت غير منظور، ويكون حضوري اليوم أكثر واقعيّة. حينئذٍ تستطيعون أن تمسكوني بصورة خفيّة ولكن واعيّة".
والمهمّة التي كلّف بها يسوع مريم دلّت عل أن هذا الإيمان قد تمّ، وعاشته جماعة أبناء الله، وأن مبدأه هو صعود يسوع في يوم الفصح هذا. لا يستطيع هذا الإيمان أن ينغلق على ذاته ولا على الماضي الذي مضى. ففي جماعة الإخوة هذه ستفيض الحياة العلوّية التي إليها يدفع القائم من الموت تلاميذه، ستفيض بفضل عطيّة الروح. إذن، على مريم أن تذهب إلى الإخوة وتقول لهم إنها رأت الربّ وإنه قال لها هذه الكلمات.
7- الإيمان الفِصْحيّ خَلْقٌ جديد
لا نجد كلمة آمن أو الإيمان في كلّ هذا الخبر. ولكن عبارة "رأيت الربّ" لا تدلّ فقط على رؤية جسديّة. فيسوع قد تراءى لمريم كشخص حيّ وحاضر، كلّمها فلمسته بيدها وقبّلت قدميه. ولكنّ هذا الإدراك يتضمّن معرفة تعمّقت فأوصلتنا إلى الدخول في سرّ يسوع. وهذا الإدراك يتضمّن فعل إيمان بالربّ. ويحاول يسوع أن يرفع هذا الإيمان إلى اكتشاف سّر صعوده إلى الآب، حيث يتمّ، مع حركة وجوده البشريّ، وحي كيانه الالهي. إن هذا الوحي، وهو موضوع كل إيمان على الأرض.
والمرحلة الثالثة في تصوير الإيمان الفصحي تعني مجموعة التلاميذ (يو 20: 19- 23). ويبدو هذا الإيمان عبوراً من الخوف في وجه "العالم"، إلى السلام والفرح في حضور الربّ، إلى المهمّة التي تسلّمها التلاميذ بقوّة الروح. وهكذا بدا الإيمان الفصحي حقيقة كأنه خلق جديد.